الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وبعد بيان من هم يأخذ في تفصيل مناعم الجنة التي أعدت لهم. وهي بطبيعة الحال المناعم التي في طوقهم أن يتصوروها ويدركوها؛ ووراءها مناعم أخرى يعرفونها هنالك يوم يتهيأون لإدراكها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!{على سرر موضونة}.. مشبكة بالمعادن الثمينة.{متكئين عليها متقابلين}. في راحة وخلو بال من الهموم.{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40)}.والمشاغل، وفي طمأنينة على ما هم فيه من نعيم، لا خوف من فوته ولا نفاده وفي إقبال بعضهم على بعض يتسامرون..{يطوف عليهم ولدان مخلدون}.. لا يفعل فيهم الزمن، ولا تؤثر في شبابهم وصباحتهم السن كأشباههم في الأرض. يطوفون عليهم {بأكواب وأباريق وكأس من معين}.. من خمر صافية سائغة {لا يصدعون عنها ولا ينزفون}.. فلا هم يفرقون عنها ولا هي تنفد من بين أيديهم. فكل شيء هنا للدوام والأمان.{وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون}.. فهنا لا شيء ممنوع، ولا شيء على غير ما يشتهي السعداء الخالدون.{وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}.. واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون، الذي لم يتعرض للمس والنظر، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين! وفي هذا كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون. وذلك كله: {جزاء بما كانوا يعملون}.. فهو مكافأة على عمل كان في دار العمل. مكافأة يتحقق فيها الكمال الذي كان ينقص كل المناعم في دار الفناء. ثم هم بعد ذلك كله يحيون في هدوء وسكون، وفي ترفع وتنزيه عن كل لغو في الحديث، وكل جدل وكل مؤاخذة:{لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما}.. حياتهم كلها سلام. يرف عليها السلام. ويشيع فيها السلام. تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن؛ ويسلم بعضهم على بعض. ويبلغهم السلام من الرحمن. فالجو كله سلام سلام..فإذا انتهى الحديث عن ذلك الفريق السابق المختار، بدأ الحديث عن الفريق الذي يليه: فريق أصحاب اليمين: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين}..وأصحاب اليمين هم أصحاب الميمنة الذين أشار إليهم تلك الإشارة المجملة في أول السورة. ثم أخر تفصيل نعيمهم، إلى موعده هنا بعد السابقين المقربين. وهو يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل: ما أصحاب اليمين؟ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم!إنهم {في سدر مخضود}.. والسدر شجر النبق الشائك. ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع.{وطلح منضود}.. والطلح شجر من شجر الحجاز من نوع العضاة فيه شوك. ولكنه هنا منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة.{وظل ممدود وماء مسكوب}.. وتلك جميعا من مراتع البدوي ومناعمه، كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه!{وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة}.. تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين. {وفرش مرفوعة}.. وهي هنا لا موضونة ولا ناعمة. وبحسبها أنها مرفوعة. وللرفع في الحس معنيان. مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس. فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها. والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها. ولهذا ينتقل السياق من الفرش المرفوعة إلى ذكر من فيها من الأزواج:{إنا أنشأناهن إنشاء} إما ابتداء وهن الحور. وإما استئنافا وهن الزوجات المبعوثات شواب:{فجعلناهن أبكارا} لم يمسسن {عربا}.. متحببات إلى أزواجهن {أترابا} متوافيات السن والشباب.{لأصحاب اليمين}.. مخصصات لهم. ليتسق ذلك مع {الفرش المرفوعة}..فأما أصحاب اليمين هؤلاء فهم {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين}.. فهم أكثر عددا من السابقين المقربين.{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقولونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}.على الاعتبارين الذين ذكرناهما في معنى الأولين والآخرين.وهنا يصل بنا السياق إلى أصحاب الشمال- وهم أصحاب المشأمة الذين سبقت الإشارة إليهم في مطلع السورة:{وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين}..فلئن كان أصحاب اليمين في ظل ممدود وماء مسكوب.. فأصحاب الشمال {في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم}.. فالهواء شواظ ساخن ينفذ إلى المسام ويشوي الأجسام. والماء متناه في الحرارة لا يبرد ولا يروي. وهناك ظل! ولكنه {ظل من يحموم}.. ظل الدخان اللافح الخانق.. إنه ظل للسخرية والتهكم. ظل {لا بارد ولا كريم}.. فهو ظل ساخن لا روح فيه ولا برد؛ وهو كذلك كز لا يمنح وراده راحة ولا إنعاشا!. هذا الشظف كله جزاء وفاق:{إنهم كانوا قبل ذلك مترفين}.. وما آلم الشظف للمترفين!{وكانوا يصرون على الحنث العظيم}.. والحنث الذنب. وهو هنا الشرك بالله. وفيه إلماع إلى الحنث بالعهد الذي أخذه الله على فطرة العباد أن يؤمنوا به ويوحدوه. {وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون}؟ كانوا... هكذا يعبر القرآن، كأنما الدنيا التي فيها المخاطبون قد طويت وانتهت فإذا هي ماض. والحاضر هو هذا المشهد وهذا العذاب! ذلك أن الدنيا كلها ومضة. وهذا الحاضر هو العقبى والمآب.وهنا يلتفت السياق إلى الدنيا في أنسب الأوقات لهذه اللفتة ليرد على سؤالهم ذاك: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}.. هو هذا اليوم الحاضر المعروض المشهود!ثم يعود إلى ما ينتظر المكذبين. فيتم صورة العذاب الذي يلقاه المترفون: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم}.. ولا يدري أحد ما شجرة الزقوم إلا ما وصفها الله به في سورة أخرى من أن طلعها كرؤوس الشياطين. ورؤوس الشياطين لم يرها أحد ولكنها تلقي في الحس ما تلقيه! على أن لفظ {الزقوم} نفسه يصور بجرسه ملمسا خشنا شائكا مدببا يشوك الأكف- بله الحلوق- وذلك في مقابل السدر المخضود والطلح المنضود- ومع أن الزقوم كرؤوس الشياطين! فإنهم لآكلون منها {فمالئون منها البطون}.. فالجوع طاغ والمحنة غالبة.. وإن الشوك الخشن ليدفع إلى الماء لتسليك الحلوق وري البطون! وإنهم لشاربون {فشاربون عليه من الحميم}.. الساخن الذي لا يبرد غله ولا يروي ظمأ.{فشاربون شرب الهيم}.. وهي الإبل المصابة بداء الاستسقاء لا تكاد ترتوي من الماء!{هذا نزلهم يوم الدين}.. والنزل للراحة والاستقرار. ولكن أصحاب الشمال هذا نزلهم الذي لا راحة فيه ولا قرار! هذا نزلهم في اليوم الذي كانوا يشكون فيه، ويتساءلون عنه، ولا يصدقون خبر القرآن به. كما كانوا يشركون بالله ولا يخافون وعيده بذلك اليوم المشهود..بهذا ينتهي استعراض المصائر والأقدار، يوم تقع الواقعة. الخافضة الرافعة. وينتهي كذلك الشوط الأول من السورة.فأما الشوط الثاني في السورة فيستهدف بناء العقيدة بكليتها، وإن كان التوكيد البارز فيه على قضية البعث والنشأة الأخرى. وفيه تتجلى طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة..إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة، قضايا كونية كبرى؛ يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود؛ وينشيء بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورا كاملا لهذا الوجود. كما يجعل منها منهجا للنظر والتفكير؛ وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها؛ ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها!إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيدا عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم.. إنه لا يبعد لهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد.. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة، وتصورا للكون والحياة قائما على هذه العقيدة.إن أنفسهم من صنع الله؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته. والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده. وهذا القرآن قرآنه. ومن يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم لها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها؛ فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم؛ والذي يحمل دلائل الإيمان، وبراهين العقيدة، فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق.وعلى هذا المنهج يسير في هذا الشوط من السورة؛ وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي يوقدون- وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم- كذلك يصور لهم لحظة النهاية. نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر. اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجها لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة، لا محاولة فيها ولا مجال! حيث تسقط جميع الأقنعة، وتبطل جميع التعلات.إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره.. إنه المصدر الذي صدر منه الكون. فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق.. الذرة يظن أنها مادة بناء الكون، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة.. والذرة على صغرها معجزة في ذاتها. والخلية على ضآلتها آية في ذاتها.. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني.. المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل. والزرع. والماء. والنار. والموت.. أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟ من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة.. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية- بالإضافة إلى الإشارة إلى مواقع النجوم- فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان. وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان:
|